فصل: الحرب بين طغركين والإفرنج

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


 خبر القمص صاحب الرها مع جاولي ومع صاحب إنطاكية

كان جاولي قد ملك الموصل من يد أصحاب جكرمش ثم انتقض فبعث السلطان إليه مودود في العساكر فسار جاولي عن الموصل وحمل معه القمص بردويل صاحب الرها الذي كان أسره سقمان وأخذه منه جكرمش وأصحابه وترك الموصل‏.‏ ثم أطلق جاولي هذا القمص في سنة ثلاث وخمسمائة بعد خمس سنين من أسره على مال قرره عليه وأسرى من المسلمين عنده يطلقهم وعلى أن يمده بنفسه وعساكره وماله متى احتاج إلى ذلك‏.‏ ولما انبرم العقد بينهما بعث بوالي سالم بن مالك بقلعة جعبر حتى جاءه هناك ابن خاله جوسكين تل باشر ‏"‏ ‏"‏ فأقام رهينة مكانه‏.‏ ثم أطلقه جاولي ورهن مكانه أخا زوجته وزوجة القمص‏.‏ فلما وصل جوسكين إلى منبج أغار عليها ونهبها وسبى جماعة من أصحاب جاولي وسئل فاعتذر بأن هذه البلاد ليست لكم‏.‏ لما أطلق القمص سار إلى إنطاكية ليسترد الرها من يد لشكري لأنه أخذها بعد أسره فلم يردها وأعطاه ثلاثين ألف دينار‏.‏ ثم سار القمص إلى تل باشر وقدم عليه أخوه جوسكين الذي وضعه رهينة عند جاولي‏.‏ وسار لشكري صاحب إنطاكية لحربهما قبل أن يستفحل أمرهما وينجدهما جاولي فقاتلوه ورجع إلى إنطاكية وأطلق القمص مائة وستين من أسرى المسلمين‏.‏ ثم سار القمص وأخوه جوسكين وأغاروا على حصون إنطاكية وأمدهم صاحب زغبان وكيسوم وغيرهما من القلاع شمال حلب وهو من الأرمن بألف فارس والذي راجل وخرج إليهم لشكري وتراجعوا للحرب‏.‏ ثم حملهم الترك على الصلح وحكم على لشكري برد الرها على القمص صاحبها بعد أن شهد عنده جماعة من البطارقة والأساقفة بأن اسمند خال لشعري لما انصرف إلى بلاده أوصاه برد الرها على صاحبها إذا خلص من الأسر فردها لشكري على القمص في صفر سنة ثلاث ووفى القمص لجاولي بما كان بينهما‏.‏ ثم قصد جاولي الشام ليملكه وتنقل في نواحيه كما مر في أخباره‏.‏ وكتب رضوان صاحب حلب إلى لشكري صاحب إنطاكية يحذره من جاولي ويستنجده عليه فأجابه وبرز من إنطاكية وبعث إليه رضوان بالعساكر‏.‏ واستنجد جاولي القمص صاحب الرها فأنجده بنفسه ولحق به على منبج وجاءه الخبر هنالك باستيلاء عسكر السلطان على بلده الموصل وعلى خزائنه بها وفارقه كثير من أصحابه منهم زنكي بن أقسنقر فنزل جاولي تل باشر وتزاحف مع لشكري هنالك واشتد القتال‏.‏ واستمر أصحاب إنطاكية فتخاذل أصحاب جاولي وانهزموا وذهب الإفرنج بسوادهم فجاء القمص وجوسكين إلى تل باشر والله تعالى أعلم‏.‏

 حروب الإفرنج مع طغركين كان طغركين

قد سار إلى طبرية سنة اثنتين وخمسمائة فسار إليه ابن أخت بغدوين ملك القدس واقتتلوا فانكشف المسلمون‏.‏ ثم استماتوا وهزموا الإفرنج وأسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بيده بعد أن فادى نفسه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة أسير فلم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل‏.‏ ثم اصطلح طغركين وبغدوين لمدة أربع سنين‏.‏ وكان حصن غزية من أعمال طرابلس بيد مولي ابن عمار فعصى عليه وانقطعت عنه الميرة بعيث الإفرنج في نواحيه فأرسل إلى طغركين بطاعته فبعث إسرائيل من أصحابه ليمتلك الحصن ونزل منه مولى ابن عمار فرماه إسرائيل في الزحام بسهم فقتله حذراً أن يطلع الأتابك على مخلفه‏.‏ وقصد طغركين الحصن لمشارفة أحواله فمنعه نزول الثلج حتى إذا انقشع وانجلى سار في أربعة آلاف فارس وفتح حصوناً للإفرنج منها حصن الأكمة وكان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فسار للقائه فلما أشرف عليه انهزم طغركين وأصحابه إلى حمص وملك السرداني حصن غزية بالأمان ووصل طغركين إلى دمشق فبعث إليه بغدوين من القدس بالبقاء على الصلح وذلك في شعبان سنة اثنتين‏.‏

  استيلاء الإفرنج على طرابلس وبيروت وصيدا وجبيل وبانياس

ولما عادت طرابلس إلى صاحب مصر من يد ابن عمار وولي عليها نائبه والإفرنج يحاصرونها وزعيمهم السرداني ابن أخت صنجيل فلما كانت سنة ثلاث وخمسمائة في شعبان ووصل القمص والد صنجيل وليس صنجيل الأول وإنما هو قمص آخر بمراكب عديدة مشحونة بالرجال والسلاح والميرة وجرت بينه وبين السرداني فتنة واقتتلوا‏.‏ وجاء لشكري صاحب إنطاكية مدداً للسرداني‏.‏ ثم جاء بغدوين ملك القدس وأصلح بينهم وحاصروا طرابلس ونصبوا عليها الأبراج فاشتد بهم الحصار وعدموا القوت لتأخر الأسطول المصري بالميرة ثم زحفوا إلى قتالها بالأبراج وملكوها عنوة ثاني الأضحى واستباحوها وأثخنوا فيها‏.‏ وكان النائب بها قد استأمن إلى الإفرنج قبل ذلك بليال وملكها بالأمان ونزل على مدينة ولحق ابن عمار بشيزر فنزل على صاحبها سلطان بن علي بن منقذ الكناني ولحق منها بدمشق فأكرمه طغركين وأقطعه الزبداني من أعمال دمشق في محرم سنة أربع ووصل أسطول مصر بالميرة بعد أخذ طرابلس بثمانية أيام فأرسى بساحل صور وفرقت الغلال في جهاتها في صور وصيدا وبيروت‏.‏ ثم استولى الإفرنج على صيدا في ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة‏.‏ وذلك أنه وصل أسطول للإفرنج من ستين مركباً مشحونة بالرجال والذخائر وبها ملوكهم بقصد الحج والغزو فاجتمعوا مع بغدوين صاحب القدس ونازلوا صيدا براً وبحراً وأسطول مصر يعجز عن إنجادهم‏.‏ ثم زحفوا إلى صور في أبراج الخشب المصفحة فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم الإفرنج في جمادى الأولى ولحقوا بدمشق بعد سبعة وأربعين يوماً من الحصار‏.‏ وأقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان وعاد بغدوين إلى القدس‏.‏

  استيلاء أهل مصر على عسقلان

كانت عسقلان لخلفاء العلوية بمصر وقد ذكرنا حروب الإفرنج مع عساكرهم عليها وآخر من استشهد منهم جمال الملك نائبها كما مر آنفاً‏.‏ وولي عليها شمس الخلافة فراسل بغدوين ملك القدس وهاداه ليمتنع به من الخليفة بمصر‏.‏ وبعث الأفضل بن أمير الجيوش العساكر إليه سنة أربع وخمسمائة مع قائد من قوادهم مورياً بالغزو وأسر إليه بالقبض على شمس الخلافة والولاية مكانه بعسقلان‏.‏ وشعر شمس الخلافة بذلك فجاهر بالعصيان فخشي أن يملكها الإفرنج فراسله وأقره على عمله وعزل شمس الخلافة جند عسقلان واستنجد جماعة من الأرمن فاستوحش منه أهل البلد ووثبوا به فقتلوه وبعثوا إلى الأمير الأفضل صاحب مصر المستولي عليها بطاعتهم فجاءهم الوالي من قبله واستقامت أمورهم‏.‏

  استيلاء الإفرنج على حصن الأثارب وغيره

ثم جمع لشكري صاحب إنطاكية واحتشد وسار إلى حصن الأقارب على ثلاثة فراسخ من حلب فحاصره وملكه عنوة وأثخن فيهم بالقتل والسبي‏.‏ ثم سار إلى حصن وزدناد ففعل فيه مثل ذلك وهرب أهله منه ومارس على بلديهما‏.‏ ثم سار عسكر من الإفرنج إلى مدينة صيدا فملكوها على الأمان وأشفق المسلمون من استيلاء الإفرنج على الشام‏.‏ وراسلوهم في الهدنة فامتنعوا إلا على الضريبة فصالحهم رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وعدة من الخيول والثياب وصاحب صور على سبعة آلاف دينار وابن منقذ صاحب شيزر على أربعة آلاف دينار وعلي الكردي صاحب ثم اعترضت مراكب الإفرنج التجار من مصر فأخذوها وأسروهم‏.‏ وسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد للنفير فدخلوها مستغيثين ومعهم خلق من الفقهاء والغوغاء وقصدوا جامع السلطان يوم الجمعة فمنعوا الناس من الصلاة بضجيجهم وكسروا المنبر فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد‏.‏ وبعث من دار الخلافة منبراً للجامع‏.‏ ثم قصدوا في الجمعة الثانية جامع القصر في مثل جمعهم ومنعهم صاحب الباب فدفعوا ودخلوا الجامع وكسروا شبابيك المقصورة والمنبر وبطلت الجمعة‏.‏ وأرسل الخليفة إلى السلطان في رفع هذا الحزن فأمر الأمراء بالتجهز للجهاد وأرسل ابنه الملك مسعوداً مع الأمير مودود صاحب الموصل ليلحق به الأمراء ويسيروا جميعاً إلى قتال الإفرنج‏.‏

 مسير الأمراء السلجوقية إلى قتال الإفرنج

ولما سار مسعود بن السلطان مع الأمير مودود إلى الموصل اجتمع معهم الأمراء سقمان القطبي صاحب ديار بكر وابنا برسق ابلتكي وزنكي أصحاب همذان والأمير أحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب إربل واياز بن أبي الغازي بعثه أخوه صاحب ماردين‏.‏ وساروا جميعاً إلى سنجار وفتحوا عدة حصون للافرنج ونزلوا على مدينة الرها وحاصروها واجتمعوا مع الإفرنج على الفرات‏.‏ وخام الطائفتان عن اللقاء وتأخر المسلمون إلى حران يستطردون للإفرنج لعلهم يعبرون الفرات فخالفهم الإفرنج إلى الرها وشحنوها أقواتاً وعدة وأخرجوا الضعفاء منها‏.‏ ثم عبروا الفرات إلى نواحي حلب لأن الملك رضوان صاحبها لما عبروا إلى الجزيرة ارتجع بعض الحصون التي كان الإفرنج أخذوها بأعمال حلب فطرقوها الآن فاكتسحوا نواحيها‏.‏ وجاءت عساكر السلطان إلى الرها وقاتلوها فامتنعت عليهم فعبروا الفرات وحاصروا قلعة تل باشر شهراً ونصفاً فامتنعت فرحلوا إلى حلب فقعد الملك رضوان عن لقائهم ومرض هنالك سقمان القطبي ورجعوا فتوفي في بالس وحمل شلوه إلى بلده ونزلت العساكر السلطانية على معرة النعمان فخرج طغركين صاحب دمشق إلى موعود ونزل عليه‏.‏ ثم ارتاب لما رأى من الأمراء في حقه فدس للإفرنج بالمهادنة‏.‏ ثم افترقت العساكر كما ذكرنا في أخبارهم‏.‏ وبقي مودود مع طغركين على نهر العاصي‏.‏ وطمع الإفرنج بافتراقهم فساروا إلى أفامية‏.‏ وخرج سلطان بن منقذ صاحب شيزر إلى مودود وطغركين فرحل بهم إلى شيزر وهون عليهم أمر الإفرنج‏.‏ وضاقت الميرة على الإفرنج فرحلوا واتبعهم المسلمون يتخطفون من أعقابهم حتى أبعدوا والله تعالى أعلم‏.‏

 حصار الإفرنج مدينة صور

ولما افترقت العساكر السلطانية خرج بغدوين ملك القدس وجمع الإفرنج ونزلوا على مدينة صور في جمادى الأولى من سنة خمس وهي للأمير الأفضل صاحب مصر ونائبه بها عز الملك الأغر ونصبوا عليها الأبراج والمجانيق‏.‏ وانتدب بعض الشجعان من أهل طرابلس كان عندهم في ألف رجل وصدقوا الحملة حتى وصلوا البرج المتصل بالسور فأحرقوه ورموا الآخرين بالنفط فأحرقوهم‏.‏ واشتد القتال بينهم وبعث أهل صور إلى طغركين صاحب دمشق يستنجدونه على أن يمكنوه من البلد فجاء إلى بانياس وبعث إليهم بمائتي فرس واشتد القتال وبعث نائب البلد إلى طغركين بالاستحثاث للوصول ليمكنه من البلد‏.‏ وكان طغركين يغير على أعمال الإفرنج في نواحيها وملك لهم حصناً من أعمال دمشق وقطع الميرة عنهم فساروا يحملونها في البحر‏.‏ ثم سار إلى صيدا وأغار عليها ونال منها‏.‏ ثم أزهت الثمرة وخشي الإفرنج من طغركين على بلادهم فأفرجوا عن صور إلى عكا‏.‏ وجاء طغركين إلى صور فأعطى الأموال واشتغلوا بإصلاح سورهم وخندقهم والله أعلم‏.‏ أخبار مودود مع الإفرنج ومقتله ووفاة صاحب إنطاكية ثم سار الأمير مودود صاحب الموصل سنة ست إلى سروج وعاث في نواحيها فخرج جكرمش صاحب تل باشر وأغار على ثوابهم فاستاقها من راعيها وقتل كثيراً من العسكر ورجع‏.‏ ثم توفي الأمير الأرمني صاحب الدروب ببلاد ابن كاور فسار لشكري صاحب إنطاكية من الإفرنج إلى بلاده ليملكها فمرض وعاد إلى إنطاكية ومات منتصف سنة ست وملكها بعده ابن أخته سرجان واستقام أمره‏.‏ ثم جمع الأمير مودود صاحب الموصل العساكر واحتشد وجاءه تميرك صاحب سنجار واياز بن أبي الغازي صاحب ماردين وطغركين صاحب دمشق ودخلوا في محرم سنة سبع إلى بلاد الإفرنج‏.‏ وخرج بغدوين ملك القدس وجوسكين صاحب القدس يغير على دمشق فعبروا الفرات وقصدوا القدس ونزلوا على الأردن والإفرنج عدوتهم واقتتلوا منتصف محرم فانهزم الإفرنج وهلك منهم كثير في بحيرة طبرية والأردن وغنم المسلمون سوادهم‏.‏ وساروا منهزمين فلاقيهم عسكر طرابلس وإنطاكية فشردوا معهم وأقاموا على جبل طبرية وحاصرهم المسلمون نحواً من شهر فلم يظفروا بهم فتركوهم وانساحوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا والقدس واكتسحوها‏.‏ ثم انقطعت المواد عنهم للبعد عن بلادهم فعادوا إلى مرج الصفر على نية العود للغزاة في فصل الربيع وأذنوا للعساكر في الانطلاق‏.‏ ودخل مودود إلى دمشق يقيم بها إلى أوان اجتماعهم فطعنه باطني في الجامع حين منصرفه من صلاة الجمعة آخر ربيع الأول من السنة ومات من يومه واتهم أخبار البرسقي مع الإفرنج ولما قتل مودود بعث السلطان محمد مكانه أقسنقر البرسقي ومعه ابنه السلطان مسعود في العساكر لقتال الإفرنج‏.‏ وبعث إلى الأمراء بطاعته فجاءه عماد الدين زنكي بن أقسنقر وتميرك صاحب سنجار‏.‏ وسار إلى جزيرة ابن عمر وملكها من يد نائب مودود‏.‏ ثم سار إلى ماردين فحاصرها إلى أن أذعن أبو الغازي صاحبها وبعث معه ابنه أيازاً في العساكر فساروا إلى الرها وحاصروها في ذي الحجة سنة ثمان مدة سبعين يوماً فامتنعت وضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا إلى شمشاط وسروج وعاثوا في تلك النواحي وهلك في خلال ذلك بكواسيل صاحب مرعش وكيسوم وزغبان من الإفرنج وملكت زوجته بعده وامتنعت من الإفرنج‏.‏ وأرسلت إلى البرسقي على الرها بطاعته فبعث إليها صاحب الخابور فردته بالأموال والهدايا وبطاعتها فعاد من كان عندها من الإفرنج إلى إنطاكية والله أعلم‏.‏ الحرب بين العساكر السلطانية والفرنج كان السلطان محمد قد تنكر لطغركين صاحب دمشق لاتهامه إياه بقتل مودود فعصى وأظهر الخلاف وتابعه أبو الغازي صاحب ماردين لما كان بينه وبين البرسقي فأهم السلطان شأنهما وشأن الإفرنج وقوتهم وجهز العساكر مع الأمير برسق صاحب همذان وبعث معه الأمير حيوس بك والأمير كسكري وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بغزو الإفرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي وطغركين فساروا في رمضان سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرملة‏.‏ وجاءوا إلى حلب وبها لؤلؤ الخادم بعد رضوان ومقدم العساكر شمس الخواص وعرضوا عليهما كتب السلطان بتسليم البلد فدافعا بالجواب واستنجدا أبا الغازي وطغركين فوصلا إليهما في ألفي فارس وامتنعا بها على العسكر فسار الأمير برسق إلى حماة من أعمال طغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثاً وسلمها للأمير قرجان صاحب حمص بأمر السلطان بذلك في كل بلد يفتحونه فنفس عليه الأمراء ذلك وفسدت ضمائرهم‏.‏ وكان أبو الغازي وطغركين وشمس الخواص قد ساروا إلى إنطاكية مستنجدين بصاحبها روميل على مدافعتهم عن حماة فبلغهم فتحها ووصل إليهم بإنطاكية بندوين ملك القدس وطرابلس وغيره من شياطين الإفرنج واجتمعوا على أفامية واتفقوا على مطاولة المسلمين إلى فصل الشتاء ليتفرقوا‏.‏ فلما أطل الشتاء والمسلمون مقيمون عاد أبو الغازي إلى ماردين وطغركين إلى دمشق والإفرنج إلى بلادهم وقصد المسلمون كفر طاب وكانت هي وأفامية للافرنج فملكوها عنوة وفتكوا بالإفرنج فيها وأسر صاحبها‏.‏ ثم ساروا إلى قلعة أفامية فاستعصت عليهم فعادوا إلى المعرة وهي للإفرنج‏.‏ وفارقهم الأمير حيوس بك إلى وادي مراغة فملكه وسارت العساكر من المعرة إلى حلب وأثقالهم ودوابهم وهم وكان روميل صاحب إنطاكية قد سار في خمسمائة فارس والذي راجل للمدافعة كل كفرطاب وأطل على خيام المسلمين قبل وصولهم فقتل من وجد بها من السوقة والغلمان وأقام الإفرنج بين الخيام يقتلون كل من لحق بها حتى وصل الأمير برسق وأخوه زنكي فصعدا ربوة هناك‏.‏ وأحاط الفل من المسلمين به وعزم برسق علم الاستماتة‏.‏ ثم غلبه أخوه زنكي على النجاة فنجا فيمن معه واتبعهم الإفرنج فرسخاً ورجعوا عنه وافترقت العساكر الإسلامية منهزمة إلى بلادها‏.‏ وأشفق أهل حلب وغيرها من بلاد الشام من الإفرنج بعد هذه الواقعة وسار الإفرنج إلى رميلة من أعمال دمشق فملكوها وبالغوا في تحصينها واعتزم طغركين على تخريب بلاد الإفرنج‏.‏ ثم بلغه الخبر عن خلو رميلة من الحامية فبادر إليها سنة تسع وملكها عنوة وقاتل وأسر وغنم وعاد إلى دمشق‏.‏ ولم تزل رميلة بيد المسلمين إلى أن حاصرها الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وملكوها والله أعلم‏.‏

 وفاة ملك الإفرنج وأخبارهم بعده مع المسلمين

ثم توفي بغدوين ملك الإفرنج بالقدس آخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة وكان قد زحف إلى ديار بكر طامعاً في ملكها فانتهى إلى تنيس وشج في الليل فانتقض عليه جرحه وعاد إلى القدس فمات‏.‏ وعاد القمص صاحب الرها الذي كان أسره جكرمش وأطلقه جاولي وكان حاضراً عنده لزيارة قمامة‏.‏ وكان أتابك طغركين قد سار لقتال الإفرنج ونزل اليرموك فبعث إليه قمص في المهادنة فاشترط طغركين ترك المناصفة من جبل عردة إلى الغور فلم يقبل القمص فسار طغركين إلى طبرية‏.‏ ونهب نواحيها وسار منها إلى عسقلان‏.‏ ولقي سبعة آلاف من عساكر مصر قد جاءوا في أثر بغدوين عندما ارتحل عن ديار بكر فاعلموا أن صاحبهم تقدم إليهم بالوقوف عند أمر طغركين فشكر لهم ذلك وعاد إلى دمشق وأتاه الخبر بأن الإفرنج قصدوا أذرعات ونهبوها بعد أن ملكوا حصناً من أعماله فأرسل إليهم تاج الملك بوري في أثرهم فحاصرهم في جبل هناك حتى يئسوا من أنفسهم‏.‏ وصدقوا الحملة عليهم فهزموهم وأفحشوا في القتل وعاد الفل إلى دمشق‏.‏ وسار طغركين إلى حلب يستنجد أبا الغازي فوعده بالمسير معه ثم جاء الخبر بأن الإفرنج قصدوا أعمال دمشق فنهبوا حوران واكتسحوها فرجع طغركين إلى دمشق وأبو الغازي إلى ماردين إلى حشد العساكر وقصدوا الاجتماع على حرب الإفرنج‏.‏ ثم سار الإفرنج سنة ثلاثة عشر إلى نواحي حلب فملكوا مراغة ونازلوا المدينة فصانعهم أهلها بمقاسمتهم أملاكهم وزحف أبو الغازي من ماردين في عشرين ألفاً من العساكر والمتطوعة ومعه أسامة بن مالك بن وسار الإفرنج إلى صنبيل عرمس قرب الأثارب فنزلوا به في موضع منقطع المسالك وعزموا على المطاولة فناجزهم أبو الغازي وسار إليهم ودخل عليهم في مجتمعهم وقاتلوه أشد القتال فلم يقاوموه وفتك بهم فتكة شنعاء‏.‏ وقتل فيهم سرحان صاحب إنطاكية وأسر سبعون من زعمائهم وذلك منتصف ربيع من السنة‏.‏ ثم اجتمع فل الإفرنج وعاودوا الحرب فهزمهم أبو الغازي وملك عليهم حصن الأثارب ورزدنا وجاء إلى حلب فأصلح أحوالها وعاد إلى ماردين‏.‏ ثم سار جوسكين صاحب تل باشر في مائتين من الإفرنج ليكبس حلة من أحياء طيء يعرفون ببني خالد فأغار عليهم وغنم أموالهم ودلوه على بقية قومهم من بني ربيعة فيما بين دمشق وطبرية فبعث أصحابه إليهم وسار هو من طريق آخر فضل عن الطريق ووصل أصحابه إليهم وأميرهم وعدة من ربيعة فقاتلهم وغلبهم وقتل منهم سبعين وأسر اثني عشر ففاداهم بمال جزيل من الأسرى وبلغ إلى جوسكين في طريقه فعاد إلى طرابلس وجمع جمعاً وأغار على عسقلان فهزمه المسلمون وعاد مفلولاً والله أعلم‏.‏

 ارتجاع الرها من الإفرنج

ثم سار بهرام أخو أبي الغازي إلى مدينة الرها وحاصرها مدة فلم يظفر بها فرحل عنها‏.‏ ولقيه النذير بأن جوسكين صاحب الرها وسروج قد سار لاعتراضه وقد تفرق عن مالك أصحابه فاستجاب لما وصل إليه الإفرنج ودفعهم لأرض سبخة فوصلت فيهم خيولهم فلم يفلت منهم أحد وأسر جوسكين وخاط عليه جلد جمل وفادى نفسه بأموال جليلة فأبى مالك من فديته إلا أن يسلم حصن الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت ومعه كلمام ابن خالته وكان من شياطينهم وجماعة من زعمائهم والله تعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏

  استيلاء الإفرنج على خرن برن وارتجاعها منهم

كان مالك بن بهرام صاحب خرت برت وكان في جواره الإفرنج في قلعة كوكر فحاصرهم بها وسار بغدوين إليه في جموعه فلقيه في صفر سنة سبعة عشر فهزم الإفرنج وأسر ملكهم وجماعة من زعمائهم وحبسهم مالك في قلعة خرت برت مع جوسكين صاحب الرها وأصحابه‏.‏ وسار مالك إلى حران في ربيع الأول وملكها ولما غاب من خرت برت تحيل الإفرنج وخرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند‏.‏ وسار بغدوين إلى بلده وملك الآخرون القلعة فعاد مالك إليهم وحاصرها وارتجعها من أيديهم ورتب فيها الحامية والله تعالى ولي التوفيق‏.‏

  استيلاء الإفرنج على مدينة صور

كانت مدينة صور لخلفاء العلوية بمصر وكان بها عز الملك من قبل الأفضل بن أمير الجيوش المستبد على الأمر بمصر وتجهز الإفرنج لحصارها سنة ست فاستمدوا طغركين صاحب دمشق فأمدهم بعسكر ومال مع وال من قبله اسمه مسعود فجاء إليها ولم يغير دعوة العلوية بها في خطبة ولا سكة‏.‏ وكتب إلى الأفضل بذلك وسأله تردد الأسطول إليه بالمدد فأجابه وشكره‏.‏ ثم قتل الأفضل وجاء الأسطول إليها من مصر على عادته وقد أمر مقدمه أن يعمل الحيلة في القبض على مسعود الوالي بصور من قبل طغركين لشكوى أهل مصر منه فقبض عليه مقدم الأسطول وحمله إلى مصر وبعثوا به إلى دمشق‏.‏ وأقام الوالي من قبل أهل مصر في مدينة صور وكتب إلى طغركين بالعذر عن القبض على مسعود واليه وكان ذلك سنة ستة عشر‏.‏ ولما بلغ الإفرنج انصراف مسعود عن صور قوي طمعهم فيها وتجهزوا لحصارها‏.‏ وبعث الوالي الأمير بذلك وبعجزه عن مقاومة حصارهم لها‏.‏ وسار طغركين إلى بانياس ليكون قريباً من صريخها وبعث إلى أهل مصر يستنجدهم فراسل الإفرنج في تسليم البلد وخروج من فيها فدخلها الإفرنج آخر جمادى الأولى من السنة بعد أن حمل أهلها ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 فتح البرسقي كفر طاب وانهزامه من الإفرنج

ثم جمع البرسقي عساكره وسار سنة تسعة عشر إلى كفر طاب وحاصرها فملكها من الإفرنج‏.‏ ثم سار إلى قلعة اعزاز شمالي حلب وبها جوسكين فحاصرها واجتمع الإفرنج وساروا لمدافعته فلقيهم وقاتلهم شديداً فمحص الله المسلمين وانهزموا‏.‏ وفتك النصارى فيهم ولحق البرسقي بحلب فاستخلف بها ابنه مسعوداً وعبر الفرات إلى الموصل ليستمد العساكر ويعود لغزوهم فقضى الله بمقتله وولي ابنه عز الدين بعده قليلا‏.‏ ثم مات سنة إحدى وعشرين وولى السلطان محمود عماد الدين زنكي بن أقسنقر مكانه على الموصل والجزيرة وديار بكر كما مر في أخبار دولة السلجوقية‏.‏ ثم استولى منها على الشام وأورث ملكها بنيه فكانت لهم دولة عظيمة بهذه الأعمال نذكرها إن شاء الله تعالى‏.‏ ونشأت عن دولتهم دولة بني أيوب وتفرعت منها كما نذكره‏.‏ ونحن الآن نترك من أخبار الإفرنج هنا جميع ما يتعلق بدولة بني زنكي وبني أيوب حتى نوردها في أخبار تينك الدولتين لئلا تتكرر الأخبار ونذكر في هذا الموضع من أخبار الإفرنج ما ليس له تعلق بالدولتين فإذا طالعه المتأمل علم كيف يرد كل خبر إلى مكانه بجودة قريحته وحسن تأنيه‏.‏

 الحرب بين طغركين والإفرنج

ثم اجتمعت الإفرنج سنة عشرين وخمسمائة وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر واستنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها فجاؤوا إليه وكان هو قد سار إلى جهة الإفرنج آخر سنة عشرين وقاتلهم وسقط في المعترك فظن أصحابه أنه قتل فانهزموا وركب فرسه وسار معهم منهزماً والإفرنج في اتباعهم وقد أثخنوا في رجالة التركمان فلما اتبعوا المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم وقتلوا من وجدوا فيه ولحقوا بدمشق‏.‏ ورجع الإفرنج من المنهزمين فوجدوا خيامهم منهوبة فساروا منهزمين‏.‏ ثم كان سنة ثلاث وعشرين واقعة المزدغاني والاسماعيلية بدمشق بعد أن طمع الإفرنج في ملكها فأسف ملوك الإفرنج على قتله وسار صاحب القدس وصاحب إنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من القمامصة ومن وصل في البحر للتجارة أو الزيارة وساروا إلى دمشق في الذي فارس ومن الرجال ما لا يحصى‏.‏ وجمع طغركين من العرب والتركمان ثمانية آلاف فارس وجاء الإفرنج آخر السنة ونازلوا دمشق وبثوا سراياهم للإغارة بالنواحي وجمع الميرة وسمع تاج الملك بسرية في حوران فبعث شمس الخواص من أمرائه ولقوا سرية الإفرنج وظفروا بهم وغنموا ما معهم وجاءوا إلى دمشق‏.‏ وبلغ الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا عن دمشق بعد أن أحرقوا ما تعذر عليهم حمله وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون‏.‏ ثم إن اسمند صاحب إنطاكية سار إلى حصن القدموس وملكه والله تعالى يؤيد من هزيمة صاحب طرابلس ثم اجتمع سنة سبع وعشرين جمع كبير من تركمان الجزيرة وأغاروا على بلاد طرابلس وقتلوا وغنموا فخرج إليهم القمص صاحبها فاستطردوا له‏.‏ ثم كروا عليه فهزموه ونالوا منه‏.‏ ونجا إلى قلعة بقوين فتحصن بها وحاصره التركمان فيها فخرج من القلعة ليلا في عشرين من أعيان أصحابه ونجا إلى طرابلس واستصرخ الإفرنج من كل ناحية‏.‏ وسار بهم إلى بقوين لمدافعة التركمان فقاتلهم حتى أشرف الإفرنج على الهزيمة‏.‏ ثم تحيزوا إلى أرمينية وتعذر على التركمان اتباعهم فرجعوا عنهم انتهى‏.‏